السكوت لا يصنع استقرارًا

في البحرين، لا أحد يشك في حب الناس لبلدهم، لكن الغريب أنك كلما انتقدت قرارًا أو تساءلت عن أداءٍ حكومي، تجد نفسك مضطرًا لتقديم شرحٍ طويل يسبق الجملة ويليها، لتؤكد أنك لا تكره البلد، وأنك تقول ما تقول بدافع الغيرة لا الخيانة. عليك أن تضع ختم الولاء في كل جملة حتى لا يُساء فهمك، لأن النقد عندنا صار تهمة محتملة، والنية أهم من الفكرة، والولاء يُقاس بالأسلوب لا بالمضمون.

الأمر ليس خوفًا من الحكومة نفسها، فالحكومة في الحقيقة لا تقترب ممن يلتزم بالقانون البحريني، بل في بعض من صاروا حكوميين أكثر من الحكومة، يوزّعون صكوك الوطنية ويستدعون الولاء عند كل رأيٍ مختلف. تراهم يرفعون شعار “مع الوطن ظالمًا أو مظلومًا”، وكأن الوطن مخلوق منفصل عن الناس، مع أنه في الحقيقة نظامٌ بشري قد يصيب وقد يخطئ ويحتاج أحيانًا إلى مراجعة. هؤلاء لا يحرسون الدولة، بل يخيفون الناس منها، ولا يدافعون عن الحكم بقدر ما يحتكرون الحديث باسمه.

منذ 2011، خافت الدولة من تكرار المشهد، فاختارت طريق الحذر بدل المجازفة. كان الخوف مفهومًا وقتها، لكن بمرور السنوات صار عادة راسخة، وورثها الناس جيلاً بعد جيل. لم تعد الأزمة سياسية، بل نفسية، لأن كثيرين تعلّموا أن السلامة في الصمت، وأن التعبير قد يُفهم خطأ، وأن من الأفضل أن تفكر بصوتٍ خافت حتى لو كان كلامك في صالح الوطن.

المعارضة اختفت تقريبًا. البعض غادر، والبعض سكت، والبعض ما زال يحاول أن يتحدث بصوت منخفض لا يسمعه أحد. وهكذا بدأنا نصدق أن البلد بخير لأن لا أحد يعترض. الصمت صار مقياس النجاح، والاختلاف صار مؤشّر خطر. حتى البرلمان، الذي كان من المفترض أن يكون مساحة للنقاش، تحوّل إلى قاعة فيها أصوات كثيرة لكنها تقول الشيء نفسه.

لكن البحرين، التي كانت أول من امتلك تجربة برلمانية منتخبة في الخليج، تستحق ما هو أوسع من الخوف. التجربة الديمقراطية لا يمكن أن تتطور دون وجود رأي آخر يوازنها، فالصوت الواحد لا يصنع استقرارًا بل يخلق فراغًا، والفراغ يغري المتطرفين من كل طرف بأن يملؤوه بالشعارات.

ولأن الفراغ السياسي لا يبقى فارغًا طويلًا، فإن غياب المعارضة الوطنية يفتح الباب أمام الأصوات الخارجية والمتطرفة لتتحدث باسم الناس. لذلك، من مصلحة الدولة نفسها أن تُعيد بناء ثقة جديدة مع الداخل، وأن تهيئ المناخ لظهور معارضة مسؤولة من أبناء البلد، تتحدث بلغةٍ وطنية لا مذهبية، وتعارض بضميرٍ لا بأجندة. فالمعارضة الوطنية لا تُضعف الدولة، بل تمنحها توازنها الطبيعي، وتخفف من احتقان الشارع وتغلق الباب أمام الاستقطاب الخارجي.

الوطن القوي لا يخاف من الكلمة، بل من غيابها. والدولة التي تثق بنفسها لا تضيق بالنقاش، بل تستفيد منه. والولاء الحقيقي لا يُقاس بعدد المدائح، بل بقدرتك على أن تقول: “هنا خطأ” دون خوف ولا إساءة.

في النهاية، البحرين لا تحتاج من يصرخ بالحب، بل من يفهمه. فالحب الحقيقي ليس أن تردد أنك وفيّ، بل أن تملك الشجاعة لتقول ما تراه صوابًا، ولو بصوتٍ منخفض.

ولأننا في زمنٍ تُراجع فيه النوايا قبل الجمل، صارت أبسط جملة نقد تُعامل كبلاغ، وأبسط نصيحة تُرفع إلى الأمن… فقط للتأكد، هل النقد وطني؟ أم صادر من الخارج؟

وربما آن الأوان أن تُمنح هذه البلاد مساحةً أوسع لحديثٍ صادق من الداخل، لأن الصوت الذي يحبها بحق… لا يحتاج إذنًا ليقول رأيه.

مقالات ذات صلة

قانون العزل السياسي 

منذ صدوره في 2018، بقي قانون العزل السياسي حاضرًا في النقاش العام. ليس لأنه يحدد فقط من يحق له الترشح، بل لأنه لامس معنى المشاركة السياسية والحق المدني في أبسط صورها، أن تكون قادرًا على المشاركة أو غير قادر بسبب انتماء سابق.

Responses

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *