ملف العاطلين – خارج الحدود

ماذا لو كنت نائبًا؟ (٣)

ملف العاطلين في البحرين لا يُحل ببيان صحفي ولا ببرنامج تدريبي جديد ولا بوعود موسمية. في المقال السابق عن البطالة قلت إنني لن أتعامل مع هذا الملف بردود فعل أو شعارات، بل برؤية مقسمة إلى أربعة محاور واضحة. هذا المقال هو تفصيل للمحور الأول من هذه الخطة، على أن تتبع لاحقًا مقالات منفصلة تشرح المحاور الثلاثة الأخرى. الفكرة بسيطة، البحريني لا يجب أن يبقى منتظرًا لفرصة محلية محدودة في سوق صغير، بل يمكن تحويل البحرين إلى مصدر لخدمات تشغيلية عالية الجودة موجّهة لأسواق أكبر، فيتحول المواطن من باحث عن وظيفة داخل بلده إلى عنصر فاعل في اقتصاد إقليمي أوسع.

البحرين تصدّر خدماتها

حين أتحدث عن خلق فرص جديدة لا أقصد فتح توظيف حكومي ولا فرض نسب إحلال عاجلة يعجز القطاع الخاص عن استيعابها، بل أتحدث عن بناء قطاع اقتصادي جديد يعتمد على تصدير الخدمات التشغيلية إلى الخارج. هذا يشمل مهام مثل مراكز الاتصال، الدعم الفني، تشغيل الأنظمة، تحليل البيانات، إدارة المحتوى الرقمي، أو تشغيل جزء من أعمال شركات خليجية أو عالمية من داخل البحرين.

هذا النموذج يُعرف عالميًا بقطاع BPO أي Business Process Outsourcing أو إسناد العمليات وتشغيلها عن بُعد، لكنه في البحرين لن يكون بصيغته التقليدية القائمة على أرخص تكلفة عمل مثل نموذج الهند والفلبين، بل بصيغة مختلفة تُعرف عالميًا باسم Premium BPO. هذا النموذج يناسب البحرين لأنه يعتمد على جودة أعلى، وازدواج اللغة، وفهم الثقافة الخليجية، واستقرار التشريعات، وهو النموذج ذاته الذي صعدت به دول مثل بولندا والبرتغال وإستونيا إلى خارطة التشغيل الدولية بعيدًا عن المنافسة السعرية الرخيصة.

كيف تعمل الآلية 

الآلية المقترحة لا تعتمد على إنشاء جهة حكومية ضخمة تنتظر المستثمرين، بل تقوم على مسار تدريجي مبني على مرحلتين. المرحلة الأولى عاجلة وقابلة للتطبيق فورًا، وفيها تستثمر الدولة عبر تمكين ومجلس التنمية الاقتصادية في الشركات البحرينية القائمة التي تمتلك بنية تشغيل واستعدادًا للنمو، وتساعدها على الوصول إلى أسواق خارجية، خصوصًا السوق السعودي، من خلال حملات ترويج وتسهيل توقيع عقود تشغيل فعلية. عند توقيع العقود يبدأ توظيف العاطلين مباشرة، ويكون التدريب على رأس العمل لا قبله، حتى يشعر الموظف منذ اليوم الأول بأن مستقبله مرتبط بواقع لا بوعد.

أما المرحلة الثانية فتأتي بعد نجاح المرحلة الأولى، وفيها يمكن استقطاب شركات عالمية لتجعل جزءًا من عملياتها يُدار من البحرين. عند نجاح النموذج الأول يصبح الاستثمار الخارجي في هذا القطاع منطقياً، لأن الدولة لا تعرض فكرة نظرية بل سوقاً فعلياً أثبت أنه يعمل.

الجدول الزمني

أي خطة لا قيمة لها إذا لم ترتبط بزمن واضح ونتائج قابلة للقياس. هذا المشروع لا يحتاج لسنوات حتى تظهر نتائجه الأولى، بل يمكن أن يبدأ أثره خلال أشهر قليلة. الأشهر الثلاثة الأولى تُخصص لوضع الإطار التنظيمي، اختيار الشركات المحلية القادرة على الدخول في التجربة، وبدء مفاوضات العقود مع الشركات الخليجية. الثلاثة أشهر التالية تشهد التشغيل التجريبي، حيث يتم توظيف دفعة تتراوح بين ثلاثمئة وخمسمئة شخص بعقود واضحة وتدريب مرتبط بالعمل. بعد ذلك تبدأ مرحلة التوسع التدريجي على مدى عام ونصف، بحيث يصل عدد الوظائف الجديدة إلى بضعة آلاف، وتصبح البحرين لاعبًا فعليًا في سوق تصدير الخدمات التشغيلية.

وبعد مرور أربع سنوات كاملة يمكن أن يتحول هذا المشروع من مبادرة تشغيلية إلى قطاع اقتصادي راسخ له تشريعاته وشركاته ومساراته المهنية.

لماذا ستقبل به الحكومة والشورى

أي مقترح واقعي يجب أن يجيب عن سؤال السياسة قبل الاقتصاد. هذا المقترح لا يفرض توظيفًا حكوميًا إضافيًا ولا يضع القطاع الخاص أمام التزامات مرهقة، ولا يعتمد على دعم مفتوح بلا مقابل، بل يفتح سوقًا جديدًا قابلًا للنمو ويخلق وظائف مرتبطة بعقود خارجية لا بميزانية الدولة. هذا النوع من الحلول ينسجم مع توجه الدولة الحالي نحو خلق وظائف نوعية في القطاع الخاص وتقليل الاعتماد على التوظيف الحكومي.

سياسيًا لا يضغط هذا المقترح على أحد ولا ينتقص من مصالح أي جهة. بل يوفر للحكومة رواية إيجابية واضحة أمام المجتمع مفادها أن الحلول لا تأتي عبر التذمر أو انتظار الوظائف الحكومية، بل عبر بناء قطاعات جديدة تخلق وظائف مستدامة دون تحميل الدولة أعباء مالية طويلة الأمد.

لماذا لم تنجح المحاولات السابقة 

تجارب البحرين السابقة في تدريب الشباب على وظائف مراكز الاتصال والخدمات التشغيلية تعثرت لسببين واضحين. السبب الأول أن التدريب كان سابقًا للتوظيف، فيدخل الشاب برنامجًا طويلًا على أمل فرصة قد تتحقق وقد لا تتحقق. السبب الثاني أن العقود لم تكن محمية، فكان من الممكن الاستغناء عن الموظفين فور انتهاء الدعم أو أول تغير في ظروف الشركة.

المقترح الحالي يتجاوز هاتين العقبتين. التدريب هنا جزء من العقد وليس شرطًا قبله، والتوظيف يبدأ قبل التدريب لا بعده، وهذا يُشعر المواطن بأن جهده مرتبط بواقع وليس بتجربة مؤقتة. والعقود تكون تحت رقابة حكومية واضحة تضع حدًا للفصل العشوائي أو الاستغلال، مع وضع حد أدنى لفترة الالتزام أو تعويض عادل عند الخروج المفاجئ.

الأثر المتوقع

على مستوى المواطنين، هذا المسار يخلق بابًا جديدًا ليس قائمًا على المنافسة على وظيفة واحدة بين آلاف، بل على حضور البحريني داخل سوق أكبر من حدود البلد. قد لا تكون الوظائف الأولى مثالية، لكنها بداية لمسار مهني يمكن أن يتطور ويقود إلى أدوار تقنية وإشرافية وإدارية أعلى. وعلى مستوى الاقتصاد يفتح هذا المسار بابًا لقطاع جديد قائم على تصدير الخدمات لا السلع فقط، ويسهم في زيادة نسبة البحرينيين العاملين في القطاع الخاص دون المساس بجاذبية الاقتصاد للشركات والاستثمارات.

إلى المحور الثاني

بهذا المقال أكون قد شرحت المحور الأول من الخطة التي ذكرتها في مقال ملف العاطلين الأول. في المقال القادم سأنتقل إلى المحور الثاني المتعلق بتحويل البحرين إلى منصة تشغيل إقليمية، ثم إلى بقية المحاور في مقالات لاحقة، حتى تكتمل الصورة ويصبح النقاش مبنيًا على رؤية واضحة لا على شعارات أو ردود فعل.

مقالات ذات صلة

ملف العاطلين

من يتابع ملف العاطلين في البحرين يعرف أنه ليس ملفًا جديدًا، وليس موضوعًا عاطفيًا يصعد ويهبط مع مواسم النقاش، بل قضية مستمرة تمس فئة كبيرة من المجتمع، وتشكّل شعورًا عامًا بالقلق حول المستقبل المهني والاستقرار المعيشي.

قانون العزل السياسي 

منذ صدوره في 2018، بقي قانون العزل السياسي حاضرًا في النقاش العام. ليس لأنه يحدد فقط من يحق له الترشح، بل لأنه لامس معنى المشاركة السياسية والحق المدني في أبسط صورها، أن تكون قادرًا على المشاركة أو غير قادر بسبب انتماء سابق.

بيبان… من لا باب له

في الأسابيع الأربعة الماضية استمتعنا بمشاهدة برنامج بيبان المقدم من صندوق الأمل وفريقهم البحريني المبدع، والذي يهدف بالدرجة الأولى إلى خلق حالة من الوعي المجتمعي لفكرة الاستثمار، وفتح بيبان …

Responses

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *