ملف العاطلين – الوظائف ليست بعيدة
ماذا لو كنت نائبًا؟ (٤)
ملف العاطلين في البحرين لن يُحل إذا بقينا نفكر داخل الحدود فقط. في المقال السابق قلت إن الحل لا يجب أن يكون رد فعل ولا أمنيات موسمية، بل خطة تشريعية واقتصادية مقسمة على أربعة محاور واضحة. وفي المقال الماضي شرحت المحور الأول المتعلق بتصدير الخدمات وبناء قطاع تشغيلي بحريني يخدم أسواقًا أكبر. واليوم أنتقل للمحور الثاني، وهو محور مختلف في فكرته وطريقته ونتيجته، لكنه يكمل الصورة نفسها. فالبحريني لا يجب أن ينتظر وظيفة، بل يجب أن تنتقل الوظائف إليه.
البحرين ليست محطة صغيرة
السؤال الحقيقي ليس عن إذا ما كان لدينا وظائف كافية، بل لماذا الوظائف التشغيلية في الخليج تُدار من دول أخرى بينما يمكن إدارتها من هنا. اليوم تُنفذ آلاف الوظائف التشغيلية من الهند وباكستان والفلبين لصالح شركات خليجية. البعض سيقول إن السبب هو انخفاض التكلفة، وهذا جزء من الحقيقة لكنه ليس كل الحقيقة. السوق الخليجي تغيّر، والشركات اليوم لا تبحث فقط عن الأرخص، بل عن الأقرب ثقافةً ولغةً وتشريعًا وجودة تشغيلية أعلى تجعل خدمة العميل واستمرار العمل أكثر استقرارًا ومطابقة لتوقعات السوق.
هذه الوظائف ليست تخصصات نادرة ولا أعمالًا معقدة. هي مهام يومية مثل خدمة العملاء، الدعم الفني،
إدارة المحتوى، المساندة التشغيلية، وتحليل بيانات بسيط. المواطن البحريني قادر على أداء هذه الوظائف بكفاءة أعلى، وبلهجة يفهمها العميل مباشرة، وبفهم ثقافي لا يتوفر في مواقع التشغيل الحالية مهما كانت رخيصة.
التحدي ليس في قدرة البحريني بل في البيئة. الشركات لا ترى البحرين خيارًا تشغيليًا واضحًا لأنها لم تجد حتى الآن إطارًا اقتصاديًا وتشريعيًا يجعل قرار نقل التشغيل إليها قرارًا منطقيًا وسهلًا. بمعنى آخر، نحن لا نفتقد الكفاءات بل نفتقد العرض الصحيح الذي يجعل البحرين خيارًا طبيعيًا للتشغيل الإقليمي.
الفكرة هي فروع تشغيل
الحل ليس جذب شركات لتفتح فروعًا تجارية جديدة، فهذا مسار تقليدي محدود. ما نتحدث عنه هو تشريع نوع جديد من الفروع يُسمى مراكز تشغيل إقليمية “Operational Hubs”. هذه الفروع لا تمارس أعمال بيع ولا تسعى للحصول على سوق محلية، بل تدير فقط جزءًا من عمليات الشركة الأم في الخارج. وعندما تكون هذه الفروع معفاة من الضرائب ومدعومة في الكهرباء والرسوم والاشتراكات وسهلة الترخيص عبر مسار واضح لا يتجاوز أسبوعين، تتحول البحرين إلى خيار تشغيل أرخص من باقي دول الخليج وأكثر استقرارًا وتشابهًا ثقافيًا ولغويًا من الهند والفلبين. وهنا تتحول المعادلة من سؤال لماذا البحرين إلى سؤال لماذا غير البحرين.
هل ستقبل الشركات
الشركات لا تتحرك بالمشاعر بل بالأرقام. وعندما تجد شركة ما إمكانية لتشغيل جزء من أعمالها بتكلفة أقل من مراكزها الحالية وبجودة أقرب إلى السوق المستهدف وباستقرار تنظيمي وتشريعي، فإن القرار يصبح اقتصاديًا قبل أن يكون سياسيًا أو إداريًا. هذا النموذج يسمح للشركات بالبدء بفِرق صغيرة ثم التوسع تدريجيًا بدل المخاطرة ببناء مراكز ضخمة منذ اليوم الأول، وهو الأسلوب الذي تتبعه أغلب الشركات الكبرى اليوم.
الجدول الزمني
الناس لا تريد خططًا بعيدة، بل أثرًا ملموسًا. هذا النموذج يمكن تشغيله خلال ستة أشهر فقط. الشهر الأول يُخصص لإعداد الإطار التشريعي وإطلاق رخصة مركز تشغيل إقليمي، ثم شهران للمفاوضات مع أول مجموعة من الشركات. بعد ذلك تبدأ ثلاثة أشهر من التشغيل التجريبي بعقود محمية وضمانات واضحة تمنع الفصل العشوائي أو ربط الوظائف بالدعم المؤقت.
ولكي ينجح هذا المسار عمليًا لا يكفي انتظار الشركات أن تكتشف الجدوى وحدها. الحكومة عبر مؤسساتها الاقتصادية والتجارية يمكنها تشكيل فريق متخصص يساعد الشركات الخليجية في حساب التكاليف ومقارنة التشغيل داخل بلدها مقابل تشغيله في البحرين. كثير من الشركات لا تملك الوقت أو الأدوات لإجراء هذا التحليل، لكن عندما تُقدم لها الأرقام جاهزة بوضوح وفارق مالي مقنع يتحول القرار من احتمال بعيد إلى خيار منطقي وسريع.
بعد اكتمال المرحلة التجريبية يبدأ التوسع التدريجي على مدى عامين، وعندها لا يبقى هذا المشروع فكرة تشغيلية ظرفية، بل يتحول إلى قطاع فعلي بآلاف الوظائف واستقرار تشريعي ومهنة لها مسار واضح داخل سوق العمل البحريني.
ماذا نربح
هذا النموذج لا يخلق وظائف فقط، بل يعيد تشكيل موقع البحرين في الاقتصاد الخليجي. بدل أن تكون البحرين سوقًا صغيرة تبحث عن فرص، تتحول إلى منصة تشغيل تعتمد عليها المنطقة. وهذا يعني حركة أكبر لرؤوس الأموال، عقود تشغيل طويلة المدى، وحضورًا متزايدًا للمهارات البحرينية داخل الشركات الخليجية من دون مغادرة البلد.
والأهم أن هذه الشركات تعمل في أسواق أكبر وأكثر تطورًا من السوق المحلي، وتستخدم أنظمة تشغيل متقدمة ومعايير دقيقة في التدريب والتقييم والتطوير المهني. وحين تُدار هذه العمليات من البحرين، فإن الخبرة تنتقل معها. الموظف لا يتعلم مهارة تنفيذ فقط، بل طريقة تفكير مختلفة في تنظيم العمل، حل المشكلات، خدمة العملاء، وإدارة العمليات بطريقة احترافية مبنية على تجارب شركات كبرى.
هذه الخبرة المتراكمة تصنع فرقًا على المدى الطويل. فهي تخلق جيلاً قادرًا على التدرج إلى مناصب إشرافية وإدارية، وتمنح البحريني فرصة تأسيس مشاريع جديدة بمعايير أعلى مما هو معتاد في السوق الحالي، لأن التجربة التي عاشها لم تكن محلية فقط، بل مرتبطة بمعايير تشغيل إقليمية ودولية. بمعنى أوضح، ما نكسبه ليس وظيفة مؤقتة، بل فرصة مهنية حقيقية ومسار مستقبل، واقتصادًا يقوم على المعرفة لا على محدودية السوق.
المقال القادم
بهذا أكون قد شرحت المحور الثاني من الخطة التي بدأتُ تقديمها في مقال ملف العاطلين الأول. وفي المقال القادم سأنتقل إلى المحور الثالث، وهو محور حساس ومهم لأنه يناقش فكرة إعادة تصميم الدعم الحكومي ليعتمد على النتائج لا على الوجود، حتى نضمن أن الدعم يتحول إلى وظائف حقيقية لا برامج شكلية.
فالبطالة لا تُحل بالصوت المرتفع، بل ببناء اقتصاد جديد يعمل لصالح الجميع.
Responses