ملف العاطلين – العمل الحر
ماذا لو كنت نائبًا؟ (٦)
المستقل اليوم واقع وليس ظاهرة عابرة. كثير من الشباب لا يبحثون عن وظيفة تقليدية، بل عن مساحة يعملون فيها بمرونة، يختارون عملاءهم، ويصنعون مسارهم بأنفسهم. لكن المفارقة أن منظومة العمل في البحرين ما زالت مصممة لوظيفتين فقط، موظف حكومي أو موظف في شركة. ما بينهما مساحة واسعة اسمها اقتصاد العمل الحر، وهذه المساحة مهملة إداريًا وتشريعيًا وماليًا. إذا أردنا معالجة البطالة خارج الفكرة التقليدية، فعلينا الاعتراف بأن المستقل جزء من الحل، لا حالة انتقالية أو هامش خارج إطار الدولة.
سجلي خطوة مهمة
من المهم أن نقول الأمور كما هي. إطلاق برنامج “سجلي” كان خطوة إيجابية لأنه أعطى المستقلين غطاءً قانونيًا للعمل. لكن في الواقع كثير من المستقلين يشعرون أن “سجلي” يشبه تصريحًا رمزيًا أكثر منه نظامًا اقتصاديًا فعّالًا. الرسوم المفروضة تقترب من رسوم الشركات التقليدية رغم أن المستقل يعمل بمفرده، ويعتمد دخله على موسم، مشروع، أو عميل واحد أحيانًا. أما البنوك فتنظر له باعتباره مخاطرة لا مشروعًا ناشئًا، فيُطلب منه ما يُطلب من مؤسسات تملك مكاتب وموظفين وإيرادات ثابتة. هذه الفجوة تُشعر المستقل بأنه غير مرئي اقتصاديًا، وأن عليه التحايل أو العمل خارج النظام، بدلًا من أن يكون جزءًا من اقتصاد الدولة.
كيان ثالث
المستقل ليس موظفًا ولا صاحب شركة تقليدية. هو كيان اقتصادي ثالث يحتاج مسارًا قانونيًا خاصًا، ورسومًا متدرجة، وتعاملًا مصرفيًا مرنًا مبنيًا على طبيعة دخله وليس على نمط الشركات التقليدية. المستقل لا يجب أن يُعامل كمنشأة راسخة وهو في مرحلة بناء دخله الأول. ويجب أن يكون له نظام تأمين اجتماعي مرن يسمح بدفع الاشتراك بناءً على الدخل الحقيقي لا باشتراك ثابت يُلزم به حتى قبل أن يحقق أول دخل فعلي. إذا اعتُرف بالمستقل كمسار مهني رسمي، ستصبح الدولة قادرة على قياس حجمه، دعمه، والاستفادة منه، بدل أن يبقى اقتصادًا موازيًا لا يدخل في حسابات الناتج الحقيقي.
التدريب ليس شهادة
التحدي الأكبر أمام المستقل ليس العمل نفسه، بل إدارة العمل. هو مسؤول عن تسعير خدماته، تسويق نفسه، إعداد العقود، إدارة التوقعات، تحسين مهاراته، والتفاوض مع العملاء. لذلك من الخطأ التعامل مع تدريب المستقلين باعتباره ورشة أو دورة تنتهي بشهادة. ما يحتاجه المستقل هو منصة وطنية توفر تدريبًا مستمرًا، موارد جاهزة، نماذج عقود، دعم قانوني مبسط، وإرشادًا دوريًا يمنع الأخطاء قبل وقوعها. هذه المنصة ليست رفاهية، بل ضرورة لحماية المستقل من سقوط مبكر بسبب نقص الخبرة في الإدارة وليس نقص المهارة المهنية.
من غرفة النوم
فكرة أن كل مستقل قادر على العمل من البيت فكرة مثالية بعيدة عن الواقع. كثيرون لا يملكون بيئة تسمح بالتركيز، أو لا يستطيعون استقبال عملاء في منازلهم، أو يحتاجون إلى مساحة مشتركة للتعلم وتبادل الخبرات. لهذا يصبح توفير مساحات عمل مشتركة مدعومة جزءًا من المنظومة، لا رفاهية. في السنة الأولى يمكن أن تكون هذه المساحات مجانية أو شبه مجانية للمستقلين المسجلين، ثم تتحول إلى رسوم رمزية مع تحسن دخلهم واستقرار أعمالهم، حتى لا يتحول الدعم إلى عبء دائم على الدولة، ولا تبقى البداية مستحيلة على من يريد أن يتحرك من مكانه.
فتح الباب
الحديث عن المستقلين لا يكتمل دون الحديث عن الفرص. إذا بقي المستقل خارج منظومة المناقصات والعقود الحكومية والشركات شبه الحكومية، فسيظل يعيش على مشاريع صغيرة وموسمية. لذلك يصبح من الضروري تخصيص جزء من العقود الحكومية لمشاريع صغيرة قابلة للتنفيذ من قبل مستقلين، مع آلية واضحة للتقييم، ومدة تنفيذ منطقية، وشروط تعاقد تناسب حجمهم لا حجم الشركات الكبرى.
ولا يتوقف الأمر عند الحكومة فقط. المنصة المقترحة يجب أن تشجع الشركات الخاصة، خاصة الكبرى منها، على طرح مناقصات صغيرة مخصصة للمستقلين عبر النظام نفسه، حتى تتكون دورة اقتصادية فعلية واستمرارية في الطلب على خدماتهم. بهذا الشكل لا نخلق فرصة عابرة، بل علاقة اقتصادية طويلة الأمد بين المستقلين، الدولة، والقطاع الخاص.
منصة تتحول إلى نافذة تصدير
المنصة لا يجب أن تبقى أداة لتنظيم السوق الداخلي فقط، بل يمكن أن تتطور لتصبح بوابة لتصدير العمل الحر من البحرين إلى الخارج. اليوم يعتمد الخليج على منصات مثل Fiverr وUpwork، لكنها لا تناسب طبيعة السوق العربي ولا توفر خدمات بجودة عالية أو التزام مهني واضح. مع الوقت، ومع تراكم الخبرات والتقييمات، بهذا تتحول المنصة من حل محلي للعاطلين إلى بوابة اقتصادية جديدة، تضع البحرين في خارطة تصدير الخدمات الرقمية كما حدث في قطاعات التشغيل عن بعد حول العالم.
من مستقل إلى شركة
ليس كل مستقل سيصبح صاحب شركة، لكن من يصل إلى مستوى معين من الدخل والاستقرار يجب أن يجد طريقًا واضحًا للتحول إلى كيان تجاري قادر على توظيف آخرين. هذا التحول يجب أن يكون مدعومًا بحوافز ضريبية، مشورة قانونية، وتسهيلات مصرفية، حتى لا يشعر المستقل بأنه يُعاقَب عندما يبدأ بالنمو بدلًا من أن يُكافأ.
بناء العلاقة
جيل اليوم لا ينتظر وظيفة، بل يبحث عن فرصة يصنع فيها اسمه ويثبت ذاته. هذا الجيل نشأ وهو يرى نماذج نجاح واقعية حوله، ويعرف أن المهارة قد تسبق الشهادة، وأن العمل الحر قد يكون بداية الطريق وليس نهايته. لذلك إذا لم يجد مساحة للعمل والتجربة داخل إطار قانوني مرن وواضح، سيبتكر طريقه خارج المنظومة أو خارج البلد بالكامل. تنظيم قطاع المستقلين ليس رفاهية ولا فكرة تجميلية، بل جزء أساسي من بناء اقتصاد حديث يقيس قيمة العمل لا شكله التقليدي.
لماذا هذا المحور أخطر من غيره
لأننا إذا تركنا العمل الحر في مساره الحالي، سنجد بعد سنوات شريحة كبيرة عاشت حياتها المهنية كلها خارج أي نظام، بلا تقاعد، بلا حماية، بلا هوية مهنية، وبلا مساهمة واضحة في الاقتصاد الوطني يمكن قياسها. وإذا حاولنا تنظيمه بشكل متعجل أو عقابي سنخنق الفكرة ونفقد أحد أهم منافذ الحركة أمام الشباب. التوازن هنا هو جوهر التشريع. حرية حقيقية، تنظيم يحمي ولا يخنق، ورسالة واضحة تقول للمستقل، أنت جزء من اقتصاد هذا البلد، ونحن نبني لك مسارًا يقدر تعبك ويحمي مستقبلك.
فوائد حكومية
الحكومة لن ترى هذا التوجه عبئًا، بل فرصة. لأنه لا يطلب وظائف حكومية ولا إنفاقًا مفتوحًا، بل نظامًا عادلًا يقوم على قاعدة من يخلق قيمة ويحافظ على البحرينيين يحصل على دعم متدرج. ومع الوقت يتحول المستقلون من أفراد يعملون وحدهم إلى شركات صغيرة ثم متوسطة، فتظهر مصادر دخل جديدة للدولة من تراخيص، ضرائب مستقبلية، ورسوم خدمات، من دون أي بضخم حكومي إضافي. والأهم أن هذا التوجه لا يكتفي بتحريك السوق الداخلي، بل يفتح بابًا اقتصاديًا جديدًا عبر جلب مشاريع من الخارج إلى البحرين. فكل مستقل ينجح في كسب عملاء من خارج البلد لا يخلق دخلًا لنفسه فقط، بل يضيف إيرادًا جديدًا يدخل إلى الاقتصاد الوطني، ويزيد فرص توسع الشركات والقطاعات المحلية. بهذه الطريقة يصبح المستقل جزءًا من النمو لا متلقيًا له.
بهذا نكون قد طرحنا معالجة مختلفة لملف العاطلين قائمة على حلول قابلة للتنفيذ والقياس، لا على وعود عامة أو برامج قصيرة العمر. وسنعود لهذا الملف مستقبلًا لنقيّم، ونطوّر، ونكمّل ما يلزم. أما الآن فسيكون التركيز في الأيام المقبلة على ملفات أخرى تعكس طموح المجتمع.
Responses