التقاعد بداية الأزمة
ماذا لو كنت نائبًا؟ (٨)
الحديث عن المتقاعدين في البحرين لا يبدأ من العاطفة، ولا من خطاب “الواجب الأخلاقي تجاه من خدموا البلد”، بل يبدأ من واقع مالي واقتصادي واضح. اليوم لدينا أكثر من 80 ألف متقاعد، جزء كبير منهم يعتمد على معاش تقاعدي ثابت، بينما تكاليف الحياة ترتفع عامًا بعد عام. الإصلاحات التي جرت سابقًا أوقفت التدهور في صندوق التقاعد لكنها لم تعالج جذور المشكلة، بل اشترت وقتًا إضافيًا لنظام كان يسير نحو مرحلة حرجة. وفي ظل تصنيف ائتماني عند حدود B+، ومساحة مالية ضيقة، تصبح أي زيادة عامة في معاشات التقاعد التزامًا طويل الأمد لا تتحمله موازنة تبحث أصلًا عن الاستقرار.
المتقاعد اليوم ليس مجرد رقم في قائمة الصرف الشهري، بل إنسان انتقل من مرحلة الإنتاج إلى مرحلة مواجهة تكاليف الحياة بثبات دخل. المشكلة ليست أن الراتب منخفض فقط، بل أن أسعار الكهرباء والغذاء والدواء والمواصلات ارتفعت أسرع من قدرة المتقاعد على التكيف، وأسرع من قدرة الدولة على رفع الدعم أو زيادة الرواتب دون تعريض التوازن المالي للخطر. هذه المشكلة ليست محلية فقط؛ دول مثل اليونان والبرتغال واجهت نفس اللحظة، وحتى بعض الولايات الأمريكية اضطرت لإعادة هيكلة التقاعد بالكامل. التجربة العالمية تقول شيئًا واضحًا: الحل ليس في زيادة الرواتب للجميع، بل في تخفيض تكلفة الحياة على المتقاعد بطريقة عادلة ومدروسة، بحيث يستفيد من يحتاج، ويحصل من يستحق، ويستمر النظام دون انهيار.
من هنا تأتي فكرة بطاقة المتقاعد الذكية. هذا النموذج ليس جديدًا. في أستراليا يحصل المتقاعد على بطاقة Seniors Card تمنحه خصومات في النقل العام، الصيدليات، الأنشطة، والمتاجر. وفي كوريا الجنوبية يحصل كبار السن على تخفيضات تصل إلى 50٪ في المرافق الصحية، النقل، والحدائق العامة. وحتى في أوروبا، تُستخدم بطاقات مشابهة لتخفيف العبء المعيشي بدل زيادة المعاشات. هذا النوع من البطاقات لم ينشأ من باب “الإحسان”، بل من فهم بسيط بإن المتقاعد لا يحتاج دائمًا مالًا إضافيًا بقدر ما يحتاج منظومة اقتصادية تجعل ما يتقاضاه كافيًا.
كيف تعمل هذه البطاقة؟
نجاح الفكرة يعتمد على أن تُصمّم بثلاث فئات واضحة، لأن المتقاعدين ليسوا طبقة واحدة، واحتياجاتهم ليست متماثلة. الفئة الأولى تشمل المتقاعدين من ذوي الدخل المنخفض، وهؤلاء يحصلون على دعم فعلي يُخفّض أعبائهم الأساسية، مثل تخفيض في فواتير الكهرباء والماء، خصومات على الوقود، أسعار تفضيلية للمواد الغذائية الأساسية، وخصومات منتظمة على الأدوية غير المشمولة حكوميًا أو الأدوات الطبية التي يحتاجها المتقاعد مع تقدّم العمر.
الفئة الثانية تضم المتقاعدين الذين يتحمّلون أعباء صحية أو أسرية أكبر، سواء كانوا يتابعون علاجًا طويلًا أو يرعون فردًا من ذوي الاحتياجات. هؤلاء يحصلون على ما تحصل عليه الفئة الأولى، لكن بقيمة أوسع وأعمق تشمل خصومات متفق عليها في المستشفيات الخاصة، العلاج الطبيعي، الفحوصات المتخصصة، ودعمًا جزئيًا للأجهزة الطبية مثل أجهزة CPAP أو السماعات الطبية. العلاج الحكومي في البحرين مجاني، نعم، لكن هناك دائمًا منطقة رمادية بين ما هو متوفر وما هو ضروري، وهذه المنطقة هي التي تغطيها البطاقة.
أما الفئة الثالثة فهي للمتقاعدين من ذوي الدخل المتوسط أو المرتفع، وهنا لا نتحدث عن دعم مالي مباشر، بل عن تقدير اجتماعي، يحصلون من خلاله على خصومات في الفنادق والمنتجعات والمطاعم والأنشطة الثقافية، وربما دعمًا بسيطًا للسفر الخارجي بالتعاون مع البنوك أو شركات الطيران. هذا النوع من الامتيازات لا يثقل الميزانية، لكنه يحفظ كرامة الإنسان الذي خدم الدولة.
لماذا سيشارك القطاع الخاص؟
في المنطق التجاري، الخصومات ليست خسارة، بل وسيلة لجعل الزبون أكثر ولاءً وأكثر انتظامًا في الشراء. الشركات حول العالم تبني أرباحًا طويلة المدى من برامج الولاء والدعم المستهدف. بطاقة المتقاعد تمنح الشركات ثلاثة مكاسب واضحة: زبون مستقر، صورة اجتماعية مسؤولة، وزيادة في المبيعات على مدى أطول. هذا النوع من التعاون بين الدولة والقطاع الخاص لا ينقل العبء المالي للدولة، بل يوزعه بطريقة ذكية لا تضر أحدًا.
ماذا لو كنت نائبًا؟
لو كنت نائبًا، فلن أقدّم هذه الفكرة كمنحة أو مجاملة، بل كتعديل تشريعي قائم على الاستدامة. سأطرح تشريعًا لإنشاء بطاقة المتقاعد بثلاث فئات واضحة، مرتبطة بمعايير دخل واحتياج لا بالعمر فقط. وسأطالب بأن يكون البرنامج تحت مراجعة سنوية تضمن عدم تحوله إلى امتياز سياسي أو حالة عبثية من الدعم العام. ثم أربط البطاقة بخطة إصلاح نظام التقاعد، بحيث تصبح جزءًا من الحل لا بديلاً متعجّلًا عن الحلول الهيكلية.
الرسالة الأهم
المتقاعد لا يطلب امتيازًا، ولا يبحث عن ترف، ما يريده فعلاً هو أن لا تتحول السنوات التي تعب فيها لأجل الدولة إلى سنوات يقضيها في ملاحقة الأسعار والالتزامات والضغوط. ما نحتاجه اليوم ليس قرارات عاطفية ولا حلولًا سريعة تبدو جميلة في العناوين ثم تثبت أنها غير قابلة للاستمرار. ما نحتاجه هو منظومة تحمي الإنسان وتحافظ على قدرة الدولة في الوقت نفسه. منظومة تعطي كل فئة ما يناسب وضعها الحقيقي، لا ما يبدو عادلًا على الورق فقط.
Responses